Thursday 2 May 2013

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ

09:01

بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2013-01-26
بسم الله الرحمن الرحيم

من أسرار القرآن
(439) - (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*)‏
 ‏(‏الأنبياء‏:107)‏
بقلم الدكتور زغلول النجار

هذه الآية الكريمة التي جاءت في خواتيم سورة الأنبياء لا يدرك حقيقة معناها إلا من استعرض واقع العالم قبل بعثة المصطفي ‏(صلي الله عليه وسلم‏).‏
فبعد جهود سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وبعد أن أنزل الله (تعالي) ثلاثمائة وبضع عشرة رسالة سماوية, ارتد غالبية أهل الأرض إلي عبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب, ونسوا هدي الله (سبحانه وتعالي) الذي علمه لأبوينا آدم وحواء (عليهما السلام) لحظة خلقهما, ثم أنزله علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين.
فأهل الجزيرة العربية أرض الكعبة المشرفة, ومهبط أبوينا آدم وحواء, ومحج ومعتمر كل أنبياء الله ورسله كانوا قد نسوا رسالة كل من إبراهيم وولده إسماعيل (عليهما السلام) فأشركوا بالله, وعبدوا الأصنام, والأوثان, والنار, والأشجار والكهوف, والآبار, والحيوانات, والشمس والقمر, وغيرهما من النجوم والكواكب والتوابع. وكان لكل قبيلة من القبائل العربية أكثر من صنم حتى بلغ عدد الأصنام المعروفة أكثر من ثلاثمائة وستين صنما.
كذلك كان اليهود قد فقدوا التوراة أثناء السبي البابلي, فابتدعوا التلمود, وحرفوا الدين, وتاجروا به, وانغمسوا إلي آذانهم في ماديات الحياة الدنيا فضلوا وأضلوا.
وكانت الإمبراطورية الفارسية مرتعا لعدد كبير من الوثنيات المتصارعة, والمعتقدات المبتدعة من أمثال الزرادشتية, والمزدكية, والمانوية, والمجوسية, والصابئة وغيرها.
وبالمثل سادت الهند أعداد من المعتقدات الموضوعة من أمثال الهندوكية, والبوذية, والجينية, وغيرها من الوثنيات القديمة.
وفي الصين سادت كذلك كل من الكونفوشية, والطاوية إلي جانب البوذية وغيرها من الوثنيات القديمة.
وفي الإمبراطورية الرومانية سادت الوثنيات المختلفة حتى اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية في بدايات القرن الميلادي الرابع. وبسبب ضياع أصول الإنجيل فإن أتباع المسيحية في ذلك الزمن كانوا قد انقسموا إلي العديد من الملل والنحل, التي كان التطاحن قد اشتد بين أتباعها, واتهم بعضهم بعضا بالكفر والضلال, وحاول بعضهم القضاء علي البعض الآخر عبر سلاسل من الحروب الطاحنة, التي استمرت لعدة قرون. وباستثناء مصر التي كانت مهدا لكل من الحضارات الفرعونية, واليونانية, والرومانية, لم تترك الحضارة الرومانية أثرا لدين صحيح.
ويذكر إسحاق تايلور في كتابه المعنون باسم شريعة يورك عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية ما ترجمته: وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة.
ومن وراء الإمبراطورية الرومانية كانت بقية دول العالم الغربي تحيا حياة همجية, لا يعرف لها فكر محدد, ولا فلسفة حياتية معينة, ولا عقيدة واضحة, ولا أثرا حضاريا يذكر.
وهذا الظلام الذي عم الأرض كانت قد تخللته بكل تأكيد فترات من الهداية الربانية الصحيحة, والإيمان بالله الخالق وحده علي يد نبي من أنبياء الله أو رسول من رسله لقول ربنا- تبارك وتعالي- إلي خاتم أنبيائه ورسله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24).
ولكن كل هذه النذر القديمة كانت أصولها قد ضاعت بالكامل, وابتدع الناس في الدين حتى فقدت الهداية الربانية من أهل الأرض بالكامل, إلا من آحاد من الناس الذين عرفوا باسم الأحناف أو الحنفاء.
لذلك كان أهل الأرض جميعا قد فقدوا نور الرسالات السماوية, وتاهوا في دياجير من الظلم والظلام, ففسدت العقيدة, وشوهت العبادة, وانحطت الأخلاق, وتدنت المعاملات عند أغلب أهل الأرض, حتى أصبحوا في أمس الحاجة إلي نور الهداية الربانية من جديد فمن الله (سبحانه وتعالي) علي أهل الأرض جميعا ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
جاء هذا الرسول الخاتم ليرد البشرية من جديد إلي التوحيد الخالص لله الخالق, وإلي عبادته (تعالي) بما أمر, وإلي الالتزام بمكارم الأخلاق, وإلي الإحسان في المعاملات بين الناس جميعا. وجاء ليذكر الناس بمرحلية هذه الحياة الدنيا القصيرة, وحتمية الانتقال منها إلي الآخرة الأبدية, وأن الدنيا مزرعة للآخرة, فمن أحسن العمل فيها يكرمه الله (تعالي) بالخلود في جنات النعيم, ومن أساء فيها بالخروج علي توحيد الله, وعدم عبادته (تعالي) بما أمر, وبالإساءة إلي الخلق, وبعدم الالتزام بمكارم الأخلاق فحسابه عسير وعقابه شديد في الآخرة. ولذلك وصف الحق (تبارك وتعالي) خاتم رسله بقوله العزيز: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*)‏ (الأنبياء:107).
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً) (الأحزاب:45-48).
وقوله (سبحانه وتعالي): (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24).
ويروي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: أن الله (تعالي) أرسل نبيه محمدا (صلي الله عليه وسلم) رحمة لجميع العالم: مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله (تعالي) هداه به, وأدخله الجنة بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله.
وقد عاش رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ثلاثة وستين عاما, منها أربعون عاما قبل البعثة الشريفة, قضاها في عبادة فطرية ألهمه الله (تعالي) إياها, وثلاثة وعشرين سنة قضاها في البعثة الشريفة, داعيا إلي عبادة الله وحده (بلا شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد), وإلي عبادته بما أمر, وإلي حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بالالتزام بمكارم الأخلاق وبالعدل الذي شرعه الله للتعامل بين عباده. وقد تحمل رسول الله في سبيل ذلك اضطهاد الكفار والمشركين حتى اضطر إلي الهجرة من بلده مكة إلي المدينة التي أقام فيها للإسلام دولة. وعاش هذا الرسول الخاتم في المدينة عشر سنوات, خاض فيها قرابة ثلاثين معركة, وستين سرية وبعثة من أجل تبليغ دين الله لأهل الأرض جميعا. وقد واجه في دعوته هذه من الحروب القتالية والنفسية, ومن محاولات القتل والسجن والتشريد, والمطاردة ما لاقي من الكفار والمشركين والمنافقين. ولكن كل ذلك لم يفت في عضده, بل زاده تصميما علي تبليغ الحق الذي أوحي إليه به, حتى فتح الله (تعالي) له مكة المكرمة, ثم أدان لإمرته كل جزيرة العرب, وفاضت روحه الطاهرة وهو يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..., أللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى... أللهم الرفيق الأعلى..., أللهم الرفيق الأعلى..., أللهم الرفيق الأعلى...". 
فصلي الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله في ذكري مولدك الشريف, وذكري انتقالك إلي الرفيق الأعلى, صلاة لا يحصيها إلا علم الله القديم, صلاة باقية ما بقي وجه الله الكريم, وعلي آلك وصحبك ومن تبع هداك ودعا بدعوتك إلى يوم الدين (اللهم آمين).

0 comments:

Post a Comment